الرسم خارج الإطار

 الرسم خارج الإطار

غانم الدن

تعلمت طلاء السيارت في المرحلة الإعدادية، كمحاولة للاعتماد على نفسي والمشاركة في دخل الأسرة، فقد توفي والدي عندما كنت في التاسعة، وقد ظهرت بادرة حسي الفني في هذه المهنة، فكنت قادرًا على مزج الألوان التي عجزت الآلة عن مزجها.
انا غانم الدّن، 51 سنة، فنان تشكيلي وباحث في مجال الفنون والمجتمع، لاجئ من مدينة الرملة، وأقطن في مخيم البريج في قطاع غزة.

بدأت الفن بمجرد "خربشات" أخربشها في المراحل الإعدادية والثانوية، وعندما لاحظت موهبتي صرت أرسم أشخاصًا، أو طبيعة صامتة، وفي تلك الأيام لم يكن هناك إنترنت ولا كان الوصول إلى المعلومة سهلا، فكنت أسأل الأشخاص ذوي التجربة عن الخامات والأدوات المناسبة، فتعلمت الفن بالممارسة ثم درست في حامعة الأقصى وتخرجت من كلية الفنون الجميلة.
آمنت، ومازلت، بأن الاستمرار والممارسة هما ما يصقلان الإنسان، وأن التطور يأتي بالتنقيب عن المعلومات، وكنت أجرب كثيرًا، وأخطئ وأتعلم من أخطائي وأكتشف أشياء جديدة، وكنت أجرب أساليب جديدة، ولأكسر حاجز الخوف، خرجت أمام الناس وصرت أرسم الجداريات، ونتيجة للتدريب المجد، أشرفت وبشكل مباشر على تنفيذ أكبر جدارية نحتية في فلسطين (جذور بلادي) و(إشراقة). ودائمًا عنيت بالنقد البناء وتقبلته بصدر رحب، وفي المقابل، تجاهلت النقد المظلم تماما.
لوحة لغانم الدن

وفي سن الثامنة عشر كنت أرسم لوحاتي من واقع الظروف السياسية والانتفاضة والمسيرات. ولئلا يتم اعتقالي، أبقيتها سرًّا وحتى الآن، لكنني أتطلع إليها دائما بفخر.

بدأت مشواري بلوحات تتبنى القضية الفلسطينية، ثم انتقلت للتركيز على مضمون الإنسان نفسه، ولأن ريشتي بالأساس فلسطينية، لذا فأي منتج لي سيكون فلسطينيًّا، وأي لوحة لي عليها بصمة فلسطينية، وتحمل طابعًا قيميًّا وحضاريًّا وإنسانيًّا.

شاركت في مهرجان الجامعات العربية بالقاهرة عام 2005، ممثلًا جامعة الاقصى، لكن الاحتلال منعني من الخروج، وعدت مرة ومرتين وثلاثة، ومع أنني علمت أنه يمكن اعتقالي، إلا أنني تحديت الاحتلال وخرجت لأمثل فلسطين في المؤتمر، وحصلت على المركز الأول أنا والفنان طاهر البنا، وحصلت على الميدالية الذهبية لملتقى الجامعات العربية، وعلى درع الإبداع لجامعة الأقصى، وقد تحقق ظني فقد دخلت إلى التحقيق، ولكنني خرجت لأنني صاحب قضية وإرادة، وتم إطلاق سراحي وسراح لوحاتي مجددًّا.

في بداية مشواري، أقمت معرضًا خاصًّا بي، وعرضت فيه لوحة رسمتها لياسر عرفات، حيث رسمت وجهه وحولت الكوفية إلى قبة الصخرة، وفي لوحة أخرى رسمتها لفتاة في إحدى المظاهرات، ترفع العلم الفلسطيني بيد وبالأخرى ترفع علامة النصر، وجعلت الفتاة كأنها تخرج من بين الأسلاك، وقد لاقت اللوحات شهر كبيرة.
وفي لوحة أخرى رسمت ياسر عرفات ولكن هذه المرة غيرت وجهه، فرسمت فيه وجوه أشخاص من محيطنا، رسمت المرأة والرجل والطفل، والشهيد خليل الوزير، والشخصية الفلسطينية البسيطة، ورجل دين مسيحي، وابن الجيران، وصديقي أيمن أبو شمالة، وجعلت ملامح الشعب تظهر في وجه عرفات، فصارت هذه اللوحة أيقونة في الداخل والخارج، ورغم العروضات التي تلقيتها لشرائها إلا أنني رفضت بيعها، وما زلت إلى الآن.
لوحة لغانم الدن


وقد حصدت تعبي وتدربي المستمر، فتكونت لدي خبرة في مجال الفن الجداري والنحت والجرافيك والديكور، وفي مجال إدارة المؤسسات والعمل الجماعي والثقافي والإنساني، وبين عامي 1998-2005 كنت نائب رئيس الجمعية الفلسطينية لللثقافة والعلوم والتنمية، وأسست مجموعة باليتا لللفن التشكيلي وترأستها، وكنت مؤسسا وعضوا فخريا للعديد من المؤسسات والمنديات والمراكز الثقافية، والحملات الاجتماعية والإنسانية.
لقد تنوعت في أعمالي وصرت أكثر ميلًا للأعمال المفاهيمية، مؤخرًا أحضرت ثلاثة غرابيل وقماشًا أبيضًا، وأدخلت القماش في حوالي ستمئة فتحة من الغرابيل الثلاثة، وتركت مسافة 3 سم على الجوانب، ثم وضعتها على اللوحة.
أردت أن أرمز بالغرابيل الثلاثة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل المحتل، أما القماش الأبيض الذي يحاول الخروج من فتحاتها الضيقة فهو الحياة والأشخاص الذين يتطلعون للحياة، فالأبيض لون غطاء الرضيع ولون غطاء الميت، أما الثلاثة سنتيمترات على الحواف فتؤشر لسياسة الاحتلال "الإسرائيلي" في منع الاقتراب من الحدود مسافة ٣٠٠ متر، وعلى جوانب الغرابيل كتبت قصيدة محمود درويش "سنخرج".
رحلتي مليئة بالمواقف بالتجارب بالتحديات بالنجاحات، وهذه المساحة الضيقة لا تكفي لأقول الكثير، كل ما أستطيع أن أقوله: علينا أن تحرر من القيود الفكرية، وإن كانت المدرسة علمتنا الحروف الأبجدية، فعلينا أن نتعلم الرسم بالكلمات، يجب أن نحرر إبداعاتنا الدفينة، لنمضي قدما بفلسطين، وبهذا العالم.
                                                                     



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قرار اليوم ..مفتاح الغد

صحفي على خط النار